كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قلت: والأحاديث الثابتة التي ذكرناها تردّ قوله، فما أجرأه على كتاب الله، قاتله الله.
وقوله: {لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} أي إلى مستقرّها، والمستقرّ موضع القرار.
{ذَلِكَ تَقْدِيرُ} أي الذي ذكر من أمر الليل والنهار والشمس تقدِير {العزيز العليم}.
{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)}.
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {والقمر} يكون تقديره وآيةٌ لهم القمرُ.
ويجوز أن يكون {وَالْقَمَرُ} مرفوعًا بالابتداء.
وقرأ الكوفيون {وَالْقَمَرَ} بالنصب على إضمار فعل وهو اختيار أبي عبيد.
قال: لأن قبله فعلًا وبعده فعلًا؛ قبله {نَسْلَخُ} وبعده {قَدَّرْنَاهُ}.
النحاس: وأهل العربية جميعًا فيما علمت على خلاف ما قال، منهم الفرّاء قال: الرفع أعجب إليّ، وإنما كان الرفع عندهم أولى؛ لأنه معطوف على ما قبله ومعناه وآيةٌ لهم القمرُ.
وقوله: إن قبله {نَسْلَخُ} فقبله ما هو أقرب منه وهو {تَجْرِي} وقبله {وَالشَّمْسُ} بالرفع.
والذي ذكره بعده وهو {قَدَّرْنَاهُ} قد عمل في الهاء.
قال أبو حاتم: الرفع أولى؛ لأنك شغلت الفعل عنه بالضمير فرفعته بالابتداء.
ويقال: القمر ليس هو المنازل فكيف قال: {قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} ففي هذا جوابان: أحدهما قدّرناه ذا منازل؛ مثل: {واسأل القرية} [يوسف: 82].
والتقدير الآخر قدّرنا له منازل ثم حذفت اللام، وكان حذفها حسنًا لتعدي الفعل إلى مفعولين مثل {واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} [الأعراف: 155].
والمنازل ثمانية وعشرون منزلًا، ينزل القمر كل ليلة منها بمنزل؛ وهي: الشَّرَطَان.
البُطَيْن.
الثُّرَيَّا.
الدَّبَران.
الهَقْعَة.
الهنعة.
الذِّراع.
النَّثْرة.
الطَّرْف.
الْجَبْهة.
الخَراتانِ.
الصَّرْفة.
العَوَّاء.
السِّمَاك.
الْغَفْر.
الزُّبَانَيان.
الإِكْليل.
القَلْب.
الشَّوْلة.
النَّعَائم.
البَلَدّة.
سَعدْ الذَّابح.
سَعدْ بُلَع.
سَعْد السُّعود.
سَعدْ الأَخْبِية.
الفَرْغ المقدَّم.
الفَرْغ المؤخَّر.
بطن الحوت.
فإذا صار القمر في آخرها عاد إلى أوّلها، فيقطع الفلك في ثمان وعشرين ليلة.
ثم يَسْتَسِرُّ ثم يطلع هلالًا، فيعود في قطع الفلك على المنازل، وهي منقسمة على البروج لكل برج منزلان وثلث.
فللحمَل الشَّرَطان والبُطَين وثلث الثريا، وللثور ثلثا الثريا والدَّبران وثلثا الهَقْعة، ثم كذلك إلى سائرها.
وقد مضى في الحجر تسمية البروج والحمد لله.
وقيل: إن الله تعالى خلق الشمس والقمر من نارٍ ثم كُسِيا النور عند الطلوع، فأما نور الشمس فمن نور العرش، وأما نور القمر فمن نور الكرسي، فذلك أصل الخلقة وهذه الكسوة.
فأما الشمس فترِكت كسوتها على حالها لتشعشع وتشرق، وأما القمر فأمرَّ الروحُ الأمين جناحه على وجهه فمحا ضوءه بسلطان الجناح، وذلك أنه روح والروح سلطانه غالب على الأشياء.
فبقي ذلك المحو على ما يراه الخلق، ثم جعل في غلاف من ماء، ثم جعل له مجرى، فكل ليلة يبدو للخلق من ذلك الغلاف قمرًا بمقدار ما يقمِر لهم حتى ينتهي بدؤه، ويراه الخلق بكماله واستدارته.
ثم لا يزال يعود إلى الغلاف كل ليلة شيء منه فينقص من الرؤية والإقمار بمقدار ما زاد في البدء.
ويبتدىء في النقصان من الناحية التي لا تراه الشمس وهي ناحية الغروب حتى يعود كالعرجون القديم، وهو العِذْق المتقوِّس ليُبسه ودقته.
وإنما قيل القمر؛ لأنه يُقمِر أي يبيض الجوّ ببياضه إلى أن يَسْتِسرَّ.
الثانية: {حتى عَادَ كالعرجون القديم} قال الزجاج: هو عود العِذْق الذي عليه الشماريخ، وهو فُعْلون من الانعراج وهو الانعطاف، أي سار في منازله، فإذا كان في آخرها دقّ واستقوس وضاق حتى صار كالعُرجون.
وعلى هذا فالنون زائدة.
وقال قتادة: هو العِذْق اليابس المنحني من النخلة.
ثعلب: {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} قال: الْعُرْجُون الذي يبقى من الكباسة في النخلة إذا قطعت، والقَديم البالي.
الخليل: في باب الرباعي الْعُرْجُون أصل العِذْق وهو أصفر عريض يشبَّه به الهلالُ إذا انحنى.
الجوهري: العرجون أصل العِذق الذي يعوج وتقطع منه الشماريخ فيبقى على النخل يابسا؛ وعَرْجَنه: ضربه بالعرجون.
فالنون على قول هؤلاء أصلية؛ ومنه شعر أعشى بني قيس:
شرق المسْك والعبير بها ** فهي صفراء كعرجون القمر

فالعرجون إذا عَتق ويَبِس وتقوّس شبِّه القمرُ في دقّته وصفرته به.
ويقال له أيضًا الإهان والكباسة والقِنْو، وأهل مصر يسمونه الإسباطة.
وقرئ: {العِرْجَوْن} بوزن الفِرجون وهما لغتان كالبُزْيون والبِزْيَون؛ ذكره الزمخشري وقال: هو عود العِذْق ما بين شماريخه إلى منبته من النخلة.
واعلم أن السَّنَة منقسمة على أربعة فصول، لكل فصل سبعة منازل: فأوّلها الربيع، وأوله خمسة عشر يومًا من أَذَار، وعدد أيامه اثنان وتسعون يومًا؛ تقطع فيه الشمس ثلاثة بروج: الحمل، والثور، والجوزاء، وسبعة منازل: الشَّرَطان والبُطَين والثُّريا والدَّبَران والهَقْعة والهَنْعة والذِّراع.
ثم يدخل فصل الصيف في خمسة عشر يومًا من حَزِيران، وعدد أيامه اثنان وتسعون يومًا؛ تقطع الشمس فيه ثلاثة بروج: الشَّرَطان، والأسد، والسُّنْبلة، وسبعة منازل: وهي النثرة والطَّرْف والجبهة والخَرَاتان والصّرفة والعوَّاء والسِّماك.
ثم يدخل فصل الخريف في خمسة عشر يومًا من أيلول، وعدد أيامه أحد وتسعون يومًا، تقطع فيه الشمس ثلاثة بروج؛ وهي الميزان، والعقرب، والقوس، وسبعة منازل الغُفْر والزُّبانان والإكليل والقلب والشولة والنعائم والبلدة.
ثم يدخل فصل الشتاء في خمسة عشر يومًا من كانون الأوّل، وعدد أيامه تسعون يومًا وربما كان أحدًا وتسعين يومًا، تقطع فيه الشمس ثلاثة بروج: وهي الْجَدي والدَّلْو والحوت، وسبعة منازل سعد الذابح وسعد بُلَع وسعد السّعود وسعد الأَخبِية والفَرْغ المقدم، والفرغ المؤخر وبطن الحوت.
وهذه قسمة السريانيين لشهورها: تشرين الأوّل، تشرين الثاني، كانون الأوّل، كانون الثاني، أشباط، آذار، نيسان، أيار، حَزِيران، تَمُّوز، آب، أيلول، وكلها أحد وثلاثون إلا تشرين الثاني ونيسان وحزِيران وأيلول، فهي ثلاثون، وأشباط ثمانية وعشرون يومًا وربع يوم.
وإنما أردنا بهذا أن تنظر في قدرة الله تعالى؛ فذلك قوله تعالى: {والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} فإذا كانت الشمس في منزل أهلّ الهلالُ بالمنزل الذي بعده، وكان الفجر بمنزلتين من قبله.
فإذا كانت الشمس بالثريا في خمسة وعشرين يومًا من نيسان، كان الفجر بالشرطين، وأهلّ الهلال بالدبران، ثم يكون له في كل ليلة منزلة حتى يقطع في ثمان وعشرين ليلة ثمانيًا وعشرين منزلة.
وقد قطعت الشمس منزلتين فيقطعهما، ثم يطلع في المنزلة التي بعد منزلة الشمس ف {ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم}.
الثالثة: قوله تعالى: {القديم} قال الزمخشري: القديم المحوِل وإذا قَدُم دَقّ وانحنى واصفر فشبه القمر به من ثلاثة أوجه.
وقيل: أقل عدّة الموصوف بالقديم الحَوْل، فلو أن رجلًا قال: كل مملوك لي قديم فهو حر، أو كتب ذلك في وصيته عتق من مضى له حول أو أكثر.
قلت: قد مضى في البقرة ما يترتب على الأهِلة من الأحكام والحمد لله.
قوله تعالى: {لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر} رفعت {الشمس} بالابتداء، ولا يجوز أن تعمل لا في معرفة.
وقد تكلم العلماء في معنى هذه الآية، فقال بعضهم: معناها أن الشمس لا تدرك القمر فتبطل معناه.
أي لكل واحد منهما سلطان على حياله، فلا يدخل أحدهما على الآخر فيذهب سلطانه، إلى أن يبطل الله ما دبر من ذلك، فتطلع الشمس من مغربها على ما تقدّم في آخر سورة الأنعام بيانه.
وقيل: إذا طلعت الشمس لم يكن للقمر ضوء، وإذا طلع القمر لم يكن للشمس ضوء.
روي معناه عن ابن عباس والضحاك.
وقال مجاهد: أي لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر.
وقال قتادة: لكلٍّ حدّ وعَلَم لا يعدوه ولا يقصر دونه إذا جاء سلطان هذا ذهب سلطان هذا.
وقال الحسن: إنهما لا يجتمعان في السماء ليلة الهلال خاصة.
أي لا تبقى الشمس حتى يطلع القمر، ولكن إذا غرَبت الشمس طلع القمر.
يحيى بن سلاّم: لا تدرك الشمس القمر ليلة البدر خاصة؛ لأنه يبادر بالمغيب قبل طلوعها.
وقيل: معناه إذا اجتمعا في السماء كان أحدهما بين يدي الآخر في منازل لا يشتركان فيها؛ قاله ابن عباس أيضًا.
وقيل: القمر في السماء الدنيا، والشمس في السماء الرابعة فهي لا تدركه؛ ذكره النحاس والمهدوي.
قال النحاس: وأحسن ما قيل في معناها وأبينه مما لا يُدفَع: أن سير القمر سيْر سريع والشمس لا تدركه في السير؛ ذكره المهدوي أيضًا.
فأما قوله سبحانه: {وَجُمِعَ الشمس والقمر} [القيامة: 9] فذلك حين حَبْس الشمس عن الطلوع على ما تقدّم بيانه في آخر الأنعام ويأتي في سورة القيامة أيضًا.
وجمعهما علامة لانقضاء الدنيا وقيام الساعة.
{وَكُلٌّ} يعني من الشمس والقمر والنجوم {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أي يجرون.
وقيل: يدورون.
ولم يقل تسبح؛ لأنه وصفها بفعل من يعقل.
وقال الحسن: الشمس والقمر والنجوم في فلك بين السماء والأرض غير ملصَقة؛ ولو كانت ملصقة ما جرت؛ ذكره الثعلبي والماوردي.
واستدل بعضهم بقوله تعالى: {وَلاَ الليل سَابِقُ النهار} على أن النهار مخلوق قبل الليل، وأن الليل لم يسبقه بخلق.
وقيل: كل واحد منهما يجيء وقته ولا يسبق صاحبه إلى أن يجمع بين الشمس والقمر يوم القيامة؛ كما قال: {وَجُمِعَ الشمس والقمر} وإنما هذا التعاقب الآن لتتم مصالح العباد.
{وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} [الإسراء: 12] ويكون الليل للإجمام والاستراحة، والنهار للتصرف؛ كما قال تعالى: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [القصص: 73] وقال: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ: 9] أي راحة لأبدانكم من عمل النهار.
فقوله: {وَلاَ الليل سَابِقُ النهار} أي غالب النهار؛ يقال: سبق فلان فلانًا أي غلبه.
وذكر المبّرد قال: سمعت عمارة يقرأ {وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارَ} فقلت ما هذا؟ قال: أردت سابِقٌ النهارَ فحذفت التنوين؛ لأنه أخفّ.
قال النحاس: يجوز أن يكون {النهارَ} منصوبًا بغير تنوين ويكون التنوين حذف لالتقاء الساكنين.
قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمْ} يحتمل ثلاثة معان: أحدها عبرة لهم؛ لأن في الآيات اعتبارا.
الثاني نعمة عليهم؛ لأن في الآيات إنعامًا.
الثالث إنذار لهم؛ لأن في الآيات إنذارًا.
{أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفلك المشحون} من أشكل ما في السورة؛ لأنهم هم المحمولون.
فقيل: المعنى وآية لأهل مكة أنا حملنا ذرية القرون الماضية {فيِ الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} فالضميران مختلفان؛ ذكره المهدوي.
وحكاه النحاس عن عليّ بن سليمان أنه سمعه يقوله.
وقيل: الضميران جميعًا لأهل مكة على أن يكون ذرياتهم أولادهم وضعفاءهم؛ فالفلك على القول الأوّل سفينة نوح.
وعلى الثاني يكون اسما للجنس؛ خبّر جل وعز بلطفه وامتنانه أنه خلق السفن يحمل فيها من يصعب عليه المشي والركوب من الذرية والضعفاء، فيكون الضميران على هذا متفقين.
وقيل: الذرية الآباء والأجداد، حملهم الله تعالى في سفينة نوح عليه السلام؛ فالآباء ذرية والأبناء ذرية؛ بدليل هذه الآية؛ قاله أبو عثمان.
وسمّي الآباء ذرية؛ لأن منهم ذرأ الأبناء.